مقتطف من رواية شياطين الطابق السفلي القصة الحقيقية التي جرت أحداثها في مدينة بسكرة عام 2018.كتبها الروائي الجزائري رفيق جلول.
الفصل السابع
المشهد الأول
صبيحة الأحد 04 مارس 2018…
اتصلت بي منى لنذهب معًا إلى جنازة عبير، سيتم دفنُها رحمها الله اليوم بعد العصر، حضرتُ نفسي للخروج والتقينا بالقرب من نزل الشرطة القريبٍ من الحي الذي تقيم فيه عبير رحمها الله، كان الحي لما ولجناه مليئًا بالرجال واقفين وجالسين بالقرب من عمي (حمة) يعزونه ويواسونه في فقدانه.
منذ أن سمع عمي (حمة) عن هوية القتلة المجرمين وعرف من الشرطةِ أنهم عصابةُ بيعِ أعضاءٍ بشرية وهو مصدومٌ، كانت ربما صدمته أكثرَ من خبر اغتيالِ عبير بذاته… حاولنا أن نتقربَ منه، ولكن كثرة الرجال الذين من حوله منعتنا من التقدمِ إليه.
صعدنا نحو المنزل حيث العزاءُ بين النسوة، ولما وصلنا كانت إيمان تستعد وخالتي سعيدة وفتاتان تقربان لهما للخروج معًا للرؤية الأخيرة وتوديع المرحومة عبير بمصلحة حفظ الجثث بمستشفى العالية.
طلبنا من خالتي سعيدة مرافقتهن، لكنها قالت أنه غير مسموح للنظر إلى المرحومة إلا من بعض أفراد العائلة، والفتاتان بنتا عمها تريدان توديعها هما كذلك، ولقد حُدِّدَ العدد لدى وكيل الجمهورية كما أعلمني ابني ياسين.
حاولنا مع إيمان كذلك ولكنها اعتذرت منا هي الأخرى؛ فلا سلطة لها ولعائلتها في قرارِ ذهابنا معهم.
نظرت إليَّ منى وكانت أجرأَ منّي في اتخاذِ القرارات، قررت أن نذهبَ ونرى صديقتنا الوحيدةَ مهما حدث، فنحن المقربتان منها رحمها الله مهما اختلفت أسماؤنا العائلية، فأخوتنا أكبر وأقوى من أيِّ قرابة.
خرجنا على إثرهن بعد اتصالِ زين الدين وياسين بهن، ونزلنا ورأينا كيف كانوا يركبون سيارتين وذهبوا جميعُهم نحو المستشفى، في تلك اللحظةِ توقفتْ تاكسي أحضرت امرأتين إلى الجنازة لا نعرفُهُما، ركبنا السيارة ذاتَها بسرعة، وطلبنا منه ملاحقةَ السيارتين اللتين كانتا قربه بعدة أمتار.
كانت الوجهةُ نحو مستشفى العالية حيثُ مدخلُ مصلحةِ الجثث الرئيسي، في الطريقِ لاحظ ياسين تتبعنا لهم فطلبَ من السائق التوقفَ، نظر إلى الخلفِ وفهم أننا من نتبعهم في محاولةٍ منا لوداع صديقتنا، فرفع صوته علينا: «ماذا تفعلان هنا؟ ممنوعٌ الدخول لغير عائلة المرحومة.»
أخذت أبكي مع منى نترجاه بما هو أغلى لديه أن يدعنا لوداع صديقتنا، ولكنه رفضَ وطلب من السائق التراجعَ لأنه لا مجال لدخولنا، حاولنا مترجيتين مرةً أخرى وبلا جدوى معه، كان يرفض ويحاول الشرحَ لنا أن الأمرَ ليس بيديه وفوق إرادته، لحظتها وصل زين الدين الذي توقفَ هو الآخر ليستفسر عما يحدث.
انتبه لنا وطلبَ من أخيه الذهابَ إلى سيارته وسيتصرف معنا، عندما رآنا زين الدين شعرنا ببعض الأمل، فقد يتفهمُ هو ويتركنا نرافقُهم لتوديع عبير.
حاول هو الآخر إقناعَنَا أن الأمرَ ليس بأيديهم، ولكن بعدما فهِمَ أننا متشبثتان برغبتنا في توديع أخته، قال لنا هيَّا تعالا، ولكن شريطة ألا نجعلَ من المستشفى مكانًا للندب وتعذيب والديه بمظاهر الحزن، وسيعالج أمر رؤيتها مع أفرادِ الشرطة هناك.
رجع زين الدين إلى السيارةِ التي كان بها، وانطلقتِ السيارات الثلاثة تكملُ طريقَها نحو مصلحةِ حفظِ الجثث.
عند المدخلِ هناك كان أفرادٌ من الشرطةِ مع حراسِ المستشفى، ولم يوقفوا موكبَ السيارات التي كانت تدخل تباعًا، لم تحركِ الشرطةُ ساكنا، بل احترمتْ دخولَ الموكبِ دون السؤال عن هويات الوافدين.
دخلنا نحو المصلحةِ وكانت حالةُ خالتي سعيدة سيئةً وهي تبكي ابنتها، دخلنا مثنى مثنى لنودع المرحومةَ عبير.
عندما دخلت ومنى إلى غرفة التبريد، نظرنا نحو التابوت التي حُوِّلَت إليه هذا الصباح قبل توديعِها ومغادرةِ (نصف الجثة) إلى قبرِها.
حينها تذكرتُ وجهَ عبير الجميل بدلَ أن أرى وجهَها المتأثر بشدةِ البرودةِ، وفمَها المضروبَ من شدة قبضةِ القاتل وهو يرغمها على السكوت، كنت أتخيلُها وهي تبتسمُ لي كالعادة، كيف كانت تتلاعب بفمها وتميله ممازحةً معنا.
صورتها وهي تضحك لا تزال عالقة في ذاكرتي، احتضنتني منى ونحن نبكي معًا بصوتٍ خافت، كانت منى تقرأ سورةَ الفاتحة وأنا أهمسُ في أذنها بالدعاءِ والرحمة والغفران لصديقتنا عبير.
لم يكن عناق منى باردا ، مع هذا برودة الغرفة كانت أقوى منه ، لم يكن عناقنا كافيا ، كان ناقصا عناق عبير ، أين تلك الأحاسيس التي كنا نشعر بها ثلاثتنا ونحن نعانق بعض ؟
الغرفة باردة جدا جدا و عناقنا أبرد دون عبير .
المشهد الثاني
بعد عودتنا إلى الحي حيث تقام الجنازة، كان الوافدون يصلون واحدًا تلو الآخر وجماعةً تلو الأخرى، كلُّهم يستعدون للمشاركة في مراسم الدفن في مقبرة بخاري بعد صلاة العصر وقيام صلاة الجنازة في مسجدِ التوبة بحي ألف مسكن.
جاء أعوان الحمايةِ المدنية والشرطةِ كذلك رفقةَ والي الولاية لتأديةِ واجب العزاء، والتحق بعده السيدُ وكيل الجمهورية الذي أفادَنا أنه تم إثباتُ التهمةِ على جميع المعنيينَ من عائلة مقري بتهمةِ القتلِ عن سابق الإصرار والترصدِ، والمشاركةِ في التقطيع والتنكيلِ بالجثة، وتمَّ وضعهم رهن الحبس مؤقتًا ريثما تتم محاكمتهم محاكمةً عادلةً.
وصل جمع من النسوة، أعتقد أنهن جئنَ لعمل مسيرةٍ ما، كانت إحداهن ترتدي لباسًا شرعيًّا أخضرَ اللون ووجها مغطى بإسدال بنفس اللون، ويدين مغطاتين كذلك بالقفاز.
كانت المرأة تحمل صورةَ طفلٍ ربما في العاشرة من عمره وتصرخ «لا إله إلا الله، محمد رسول الله!» والأخريات ترددن وهن تحملن صورًا مطبوعةً للمرحومة عبير، كان في صراخهن دعوةٌ للاحتجاج على عمليات الاختطاف التي تقع في المدينة منذ سنواتٍ، إنما أغلبها لم نكنْ نسمع بها إلا نادرًا أو لا نهتم حتى أصابتنا مصيبتنا في اختطافِ وقتلِ أختي عبير.
وصلت سيارة الإسعاف وهي تحمل التابوتَ الذي فيه (نصف جثة) عبير، ولما رآها شباب الحي تقدموا نحوها، سار خلفهم رجالٌ من أهلنا والجيران العقلاء، تشابكت أيديهم وقبضت على بعضها البعض لتمنعهم من أي تصرفٍ يثير الفوضى أو يمسُّ بكرامة النسوة الواقفات بالقرب من السيارة.
بعد استعدادنا نهائيًّا ركبت حافلةً أحضرتها جمعيةٌ خيرية لمرافقة الموكب، وانطلقنا محمَّلِين بأحزاننا وقلوبنا خاشعةٌ نحو دعاء المولى عز وجل مليئةٌ بأدعيةِ الرحمة والغفران لأختي عبير.
المشهد الثالث
في مسجد التوبة / حي ألف مسكن…
كان الحي خارج المسجد مليئًا بالمصلين، كان صوت المكبِّرِ مرتفعًا يدعو منه إمام المسجد لصلاة الجنازة على المغفور لها عبير.
كانت مهمتي مع زملائي من أفراد الشرطةِ مرافقةَ موكب الجنازة من بيت عائلتها إلى المسجد ومن المسجد إلى مقبرة بخاري حيث أعلنَ ذووها دفنَها هناك.
توقفت السيارات وخرج سائقوها لتأديةِ الصلاة هم كذلك بالشارعِ المحاذي للمسجد، لم يكنْ في المكان إلا أصوات الخشوعِ والتكبيراتُ الأربعُ التي كان يطلقُها الإمامُ بين تلاوةٍ وأخرى.
أكملنا المسيرَ نحو المقبرةِ التي تبعدُ عن المسجدِ حوالي ستَّمئةِ مترٍ، كانت أقدامنا تسير ببطءٍ، الإخوة الملتحون كانوا يركضون خلفَ سيارة الإسعاف للمس التابوت، والدُ المرحومة عبير جالسٌ يتأمله حزينًا وباكيًا وأحدُ بنيه يواسيه.
كان منظرُ المدينة كئيبًا، حزينًا وتراجيديًّا، الملائكة وحدَها السعيدة بالوافدة الجديدة إلى الله.
لما وصلنا إلى المقبرة كأن جميعَ سكانِ بسكرة اجتمعوا في مكانٍ واحد، كأنهم اتفقوا على الحزنِ في آنٍ واحد، كانت المقبرة كلُّها بقدر أقدام الحضور من سكان المدينة بل تكادُ لا تتسعُ لهم، حتى هناك من راح يتسلَّقُ جدران المقبرة ليشارك منظرَ دفنِ المرحومة عبير.
نادى المنادي بالدعاءِ بعد أن تمَّ دفنها، كان الجميع يردِّدُ وراءَ كلِّ دعاءٍ بصوتٍ واحدٍ ملتحِمٍ: «آمين، آمين…».
كلُّ المدينةِ حزينةٌ!
المشهد الرابع
صبيحة يوم الجمعة 9 مارس 2018…
كانت عبير تنادني في حلمي: «بابا، بابا…»
لا يزال صوتُها عالقًا في ذهني، استيقظت في هذه اللحظة مفجوعًا أبكيها، كلما استمعت إلى صوتِها أحسست أن ضميري يؤنّبني لأني لم أسمَعْهَا وهي تستنجدُ بي لحظةَ اختطافها و إرغامها على الدخولِ بالقوة.
استيقظَ على إثري محمود زوجُ خالتها وحاولَ مواساتي وأنا أبكي، أحسستُ أن قلبي يحترقُ، فجمرةُ الفقدِ لا تزال جديدةً عليَّ، خصوصًا أنها فلذّةُ كبدي وأصغرُ أولادي.
بعدها اقترحَ أن نذهبَ معًا لزيارةِ قبرها بالبخاري فأنا لم أزرهُ منذُ دفنِهَا، لقد أقنعني أنَّ عبيرَ تشتاقُ لي ووجبَ عليَّ زيارتُها والترحمُ عليها.
قررتُ الخروجَ من قوقعتي أخيرًا التي ألزمتُ نفسي بها منذُ أيامٍ، وزيارةَ قبرِ ابنتي عبير التي تشتاقُ لي.
خرجنا من البيتِ واستقللنا تاكسي دونَ أن نفكرَ في إيقاظِ ابني زين الدين من نومِهِ.
عند وصولنا إلى المقبرةِ ولجناها، طال بنا المسيرُ من المدخلِ ولم نعثرْ على قبرِ المرحومة، نسيتُ المكان الذي قمنا بدفنِهَا فيهِ، لم أدرِ أيَّ اتجاهٍ نتخذُهُ للوصول، وأيَّ قبرٍ يحملُ (نصفَ جثةِ) ابنتي.
وأنا أسير مع رفيقي سمعت صوتًا خافتًا بدأ يتصاعد شيئًا، فشيئًا كلما تقدمت خطواتي: «بابا، بابا…».
استدرت خلفي رأيت محمود توقفَ هو الآخر ينظر مندهشًا.
قال: «هل سمعت؟»
رددت عليه: «نعم سمعت، إنها عبير تناديني».
ذهبنا نحو اتجاهِ الصوت مسرعين، لحظتها تخيلت أن ابنتي قامت من مثواها.
وجدت القبرَ جنبَ قبرِ أخي التهامي، كان لا يزال نديًّا كأن هناكَ من سقاه للتو.
سقطت على قبرِ ابنتي وأطلقتُ العنانَ للبكاءِ عليها، محاولًا داخل قلبي الصبرَ على فراقها، كنتُ أحسُّ أن يدًا ناعمةً تربت على كتفي، كنت أقول: «اتركني أخي محمود أبكي ابنتي، أرجوك، قلبي يحترق.»
لم تتوقفْ تلك اليد من ملامسةِ كتفي حتى تخلصتُ من بكائي، التفتُّ خلفي فعثرتُ على محمود واقفًا مكانهُ، اندهشَ معتقدًا أني أحدثُهُ، ولم يقربني قط ولم تلمسْ يداه كتفي.
عندما هممنا بالخروج من المقبرةِ وسرنا بعض أمتارٍ، سمعتُ صوتَهَا من جديد: «بابا، بابا»، التفتُّ، فكانت تبتسم لي وتودعني بيدها الناعمة.